سمعتُ صوتًا هاتفًا في السحر
نادى من الغيب غفاة البشر
هبوا املأوا كأس المنى
قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ الَقَدر
الأنشودة الرقراقة التي نسمعها بصوت وائل الفشني في تتر البداية لمسلسل “الحشاشين”
رباعية الاستهلال في النظم الأروع للشاعر الفارسي عمر الخيام -(تطالعنا قصته في العمل أيضًا)-، والذي قام بتعريبه الشاعر المصري الكبير أحمد رامي

التتر البديع، الذي أعتبره خير بداية للعمل، وأعتقد أن صُنَّاعه حرصوا على ذلك، وذلك لخلق حالة من التأثر الروحي والنفسي عن طريق المزيكا البديعة لأمين بوحافة، والكلمات العذبة الصافية لكاتبها.
لكن .. وكما لاحظت من التترات .. لم يُشر صُنَّاع العمل لهذا الأمر من قريب أو بعيد .. فقط اكتفوا بالرباعية الأولى، ولم ينسبوها لأحد، حتى أنهم لم يذكروا مغني هذه الكلمات في التتر، نحن فقط عرفناه بصوته المميز!

وهذا يجعلنا نقف قليلاً أمام هذه الكلمات وصاحبها، وكيف وصلت إلينا، وكيف تم تعريبها، وقصة أحمد رامي في مسألة تعريبها، وكيف في الأخير غنتها كوكب الشرق الست أم كلثوم في واحدة من أجمل أغانيها، أغنية “رباعيات الخيَّام” الشهيرة .. التي أعشقها عشق ..
خلونا نشوف الحكاية مع بعض

في السابع من ديسمبر من عام 1950، وفي حديقة الأزبكية، تقوم الست أمُّ كلثوم بغناء قصيدةٍ جديدة بديعة تخلب بها ألبابَ مُستمعيها، وتسطِّر بها علامةً مضيئة كبيرة في تاريخها الفني!
القصيدة كانت بعنوان “رباعيات الخيام”.. كاتب الكلمات هو الشاعر أحمد رامي، وقامَ بتلحينها رياض السنباطي على مقام الراست.

القصيدة عبارة عن 15 رباعية قامتْ باختيارها أمُّ كلثوم بنفسها من الترجمة التي قام بها أحمد رامي نقلًا عن الرباعيات الفارسية للشاعر عمر الخيام.
والرُّباعية هي عبارة عنْ مقطوعة شعرية من أربعة أبيات تدورُ حول موضوع معيَّن، وتكوّن فكرةً تامة. وفيها إمّا أن تتفق قافيةُ الشطرين الأول والثاني مع الرابع، أو تتَّفق جميعُ الشطور الأربعة في القافية. وكلُّ عبارةٍ تمثِّلُ موضوعًا مستقلًّا بذاته؛ لذا فالتَّرتيب بين الرباعيات لا يهمُّ كثيرًا.

أصلُ الحكاية يعود إلى أحمد رامي عندما كان بجامعة السوربون بباريس، حيث يروي بنفسِه كيف اكتشف عام 1922 نسخةً من رباعيات الشاعر الفارسي عمر الخيام، والتي قام بنشرها المستشرق الفرنسي “نيقولا” عن النسخة الفارسية عام 1867، بعدها انقطعَ رامي لقراءتها ودراستها، ولمّا انتهى منها دارَ بخلده أن ينقلَها عن الفارسية إلى الشِّعر العربي في صورة رباعيات كما نظمَها الخيام، وشجَّعه على ذلك افتقارُ اللغة العربية وقتها في ذلك العهد إلى هذه الرباعيات المنقولة عن الشعر الفارسي.
ويحكي رامي عن مدى تدقيقِه في التَّأريخ للنسخة والتحقُّق منها، حيث يقول إنَّه قبلَ إقدامه على صُنع الترجمة العربية، قام بمراجعة نُسخ الرباعيات الخطيَّة في دار الكتب الأهلية بباريس, وسافر في مستهلِّ عام 1923 إلى برلين حيث راجع النسخ الخطيَّةَ المحفوظة في مكتبتها الجامعة.

بعدَ ذلك انصرفَ خلالَ العام 1924 إلى ترجمةِ مختارات من الرباعيات نُشرت للمرَّة الأولى في صيف ذلك العام.
أحمد رامي قامَ بترجمة ما يقرُب من 170 رباعية للخيام، وهي أقلُّ من نصف ما تمَّ اكتشافُه من رباعياتٍ لهذا الرجل!
أحمد رامي قامَ بدراسة الفارسية خصيصًا كي يتبحَّر في الأدب الفارسي، وكان شغفُه كبيرًا بدراسة شِعر الرباعيات, والمتمثل في كتابات عمر الخيام كنموذجٍ لهذا النمط الشعري.
لم يتعجَّل أن يُخرج الترجمة، أو يكون له سبْقٌ أدبي، ولكنه أراد أن يصنعَ عملًا أدبيًّا يدوم أبدَ الدهر؛ فدرسَ وتحقَّق وسافر وترجَم، وظلَّ سنوات يقوم بذلك حتى أخرجَ تحفتَه الأدبية المعرَّبة عن رباعيات الخيام.
عمر الخيام.. هو فيلسوفٌ وعالمُ فلكٍ ورياضيات، كما أنه أحبَّ نظمَ الشِّعر وأتقنه. والخيام هو لقبُ والده، واكتسب هذا اللقبَ نتيجة اشتغاله في صنع الخيام، ويُقال إنَّ أصوله عربية.

كان عالمًا وَرعًا بخلاف ما كان يُنسب إليه أنه كان صاحبَ هوى وكأس، وهذا ما جعل كثيرًا من المؤرخين المنشغلين بكتابة السيَر يردَّدون أنَّ كثيرًا من أبيات الرباعيات والمنسوبة إلى الخيام غيرُ صحيحة، أي أنه ليس كاتبها الأصلي؛ مُدَّعين وجودَ أبيات كثيرة دخيلة على الرباعيات الأصلية التي كتبها الخيام.
كان أصدقاؤه المقرَّبون من ذوي المناصب والسلطة؛ لذا فقد تولَّوه بعنايتهم وأغْدقوا عليه الأموال، وتفرَّغ هو للبحث والتدقيق ومُتابعة كتاباته. ويحكي كثيرٌ من الناس أنَّهم كانوا يرونه يردِّد أبيات رباعياته، والتي حفظها الناس عنه في وقتها!
ويعود تاريخُ اكتشاف وترجمةِ رباعيات الخيام إلى العام 1859، حيث قام الكاتب البريطاني إدوارد فيتزجيرالد بترجمتها إلى الإنجليزية. وقد نُشرت ترجمة فيتزجيرالد في أربعِ طبعات أعوام: 1859، 1868، 1872، 1879.
أمّا بالنسبة للترجمات العربية لرباعيات الخيام, فهناك العديد ممن قاموا بترجمتها من أمثال وديع البستاني الذي يعدُّ مِن رواد مَن ترجموا الرباعية، وقد اعتمد البستاني على الترجمة الإنجليزية لفيتزجرالد، وهناك محمد السباعي الذي صدرت ترجمته عام 1922 مُعتمدًا على ترجمة فيتزجيرالد أيضًا، إضافة إلى كلٍّ من: أحمد زكي أبو شادي، إبراهيم المازني، علي محمود طه، عباس العقاد، غنيمي هلال, وغيرهم. وهؤلاء منهم مَن ترجم بعض الرباعيات، ومنهم مَن عرّب عددًا كبيرًا منها يصل زهاء ثلاثمائة وخمسين رباعية كما للزهاوي. ولكنَّ صاحبَ الرقم القياسي هو العراقي عبد الحق فاضل الذي ترجم ثلاثمائة وواحدًا وثمانين رباعية.
وتُعدُّ ترجمة رامي هي الأبسطَ والأجمل والأكثر قُربًا للنفس, وأعظمهم انتشارًا في ربوع الوطن العربي بأسره، وخاصَّة بعد غناء كوكب الشرق لها.
بعدَ رُبع قرن من ترجمة أحمد رامي للرباعيات، تتلقَّفها السيدة أمُّ كلثوم وتُرسلها بدوْرها إلى ماكينة الإبداع الأولى وقتها؛ الكبير الراحل رياض السنباطي، ليُسحر ويُفتَن بها السنباطي فورَ قراءته للكلمات، ويقوم بصنْع لحن لوْذعي لها، يحكي عنه فيما بعد أنَّه أعظمُ لحن صنعَه بحياته! وهو الذي صنع الكثير والكثير!
طبعًا الست أم كلثوم قامت بدورها الرقابي وحسها الفني على الوجه الأمثل كما عادتها، فقامت بانتقاء الرباعيات الأقرب لمستمعيها، والتي لا لبس فيها، بحيث تناسب المستمع العربي الشرقي، لذا فقامت كما أشرت سالفًا بانتقاء 15 رباعية من بين 170 !!
غنت كوكب الشرق الأغنية وأضحت من بين أعظم الأعمال التي قامت بأدائها، وظلت عالقة بأذهان كل من سمعها، وخاصة مطربي وقتها، إلى الحد الذي جعلهم يريدون أن يقوموا بغنائها هم أيضًا !!
من بين الذين قاموا بغناء رباعيات الخيام المطربة نجاة، ولكن نسختها لم تلق الانتشار الكبير، كما قام الشيخ سيد النقشبندي بتسجيل نسخة بصوته، ولكن يأتي على رأس هؤلاء ملحن الأغنية رياض السنباطي، والذي من فرط عشقه للعمل قام بتسجيله كاملاً على العود عام 1963، وكان أداؤه في منتهى الرقي والجمال، وذكر هو بعد ذلك أنه يصنف هذا العمل على أنه المحبب إلى قلبه من بين كل أعماله.
أنه عمل صُنع بإبداع وإتقان .. عمل خالد يستحق أن يحيا أبد الدهر
شهيرة النجار